الاستشراق الألماني
صفحة 1 من اصل 1
الاستشراق الألماني
المقدمة
على الرغم من اتصالِ ألمانيا بالشرق منذ الحروب الصليبية الأولى، وانشقاقها بعد ذلك عن الكنيسة الكاثوليكية إثرَ حركة "مارتن لوثر"؛ فإن الدراسات الاستشراقية الألمانية لم تزدهرْ إلا في القرن الثامن عشر، متأخِّرة في ذلك عن بقية دول أوروبا، ولم يشارك العلماء الألمان في الدراسات العربية اشتراكًا فعليًّا إلا بعد أن توغَّل الأتراك في قلب أوروبا، التي بدأتْ تهتم بدراسة لغات العالَم الإسلامي.
ولعل الصفة البارزة للاستشراق الألماني أنه لم يزدهرْ نتيجةً للاستعمار - كما هي الحال مع فرنسا وإنجلترا وهولندا - أو يرتبط بأهداف دينية تبشيرية كسواه.
والاستشراق الألماني يمتاز بالموضوعية والعمق، وساهم المستشرقون الألمان أكثرَ من سواهم بجمع ونشر وفهرسة المخطوطات العربية، وخصوصًا كتب المراجع والأصول المهمة، ونشر المخطوطات، فإن أهمَّ ما قام به المستشرقون الألمان وضعُ المعاجم العربية.
وقد ازدهرتِ الدراسات الاستشراقية في ألمانيا بفضلِ إنشاء كراسيَّ عديدة لتعلُّم العربية في ألمانيا، وازدياد المكتبات الشرقية التي اكتظت بالآلاف من المخطوطات والمؤلفات العربية والشرقية النادرة، وتأسيس الجمعيات الشرقية؛ كالجمعية الشرقية الألمانية، وإنشاء المجلات المتخصِّصة، منها: مجلة عالم الإسلام، التي أنشأها مارتن هارتمان، ومجلة: إسلاميات، التي أنشأها فيشر، وبرز في هذا المجال "فريدريش روجار" تلميذُ المستشرق النمساوي الكبير "جوزيف بورجشتاله"، وكذلك "هاينريش بارث".
من خلال هذه الدراسة الموجزة سأحاول التعرف على أهم خصائص ومزايا واتجاهات المدرسة الاستشراقية الألمانية ، وكذلك التعرف على أهم رواد الاستشراق الألماني.
الاستشراق الألماني
اهتم الباحثون الألمان بالدراسات العربية الإسلامية منذ عهد مبكر فقد ثبت أن مارتن لوثر كان من الذين تأثروا بالفكر الإسلامي حينما تمرد على الكنيسة الكاثوليكية في روما، ولكن موقف لوثر كان عدائيا جداً من الإسلام وبخاصة الدولة العثمانية. وقد تميز المستشرقون الألمان بالجدية في البحث حتى اصطبغت الدراسات الإسلامية في أوروبا في وقت من الأوقات بالصبغة الألمانية. ويقول في ذلك الدكتور السامرائي "ومع كل هذا فإن المدرسة الألمانية وحدها أظهرت اهتماما علميا جادا بالإسلام في وقت مبكر عن غيرها من المدارس الاستشراقية الأوروبية0 وذكر أمثلة على هذا الاهتمام بالمخطوطات وبالتاريخ الإسلامي حيث ظهر كتاب مغازي الواقدي وبدأ تحقيق كتاب الطبري، وظهرت جهود بروكلمان في كتابه ’تاريخ الأدب العربي‘.
وما زال الاستشراق الألماني مزدهراً في العديد من الجامعات، وقد لحق الاستشراق الألماني غيره في الاهتمام بالقضايا المعاصرة فقد قدم المستشرق راينهارد شولتز محاضرة في شهر سبتمبر 1986 في جامعة برنستون بالولايات المتحدة بعنوان ’الإسلام السياسي في القرن العشرين‘.
مزايا الاستشراق الألماني:
إن المتتبع لحركة الاستشراق الألماني يلاحظ أنه اختص بمزايا عدة منها:
1 – كان الأقل بين الدراسات الاستشراقية للخضوع لغايات سياسية أو استعمارية أو دينية بخلاف الاستشراقات الأوروبية الأخرى) ألمانيا التي لم يتح لها أن تستعمر البلاد العربية أو الإسلامية، ولم تهتم بنشر الدين المسيحي في الشرق). ولم تؤثر هذه الأهداف في شكل عام في دراسات المستشرقين الألمان وبقيت محافظة غالباً على التجرد وعلى الروح العلمية. وإذا ظهرت بعض الدراسات الاستشراقية الألمانية تخالف ذلك، فهذا الأمر لا يمكن تعميمه على الدراسات كلها.
2 – لم تكن دراسات المستشرقين الألمان عن العرب والإسلام والحضارة الإسلامية العربية متصفة على الغالب بروح عدائية. نعم نجد بعض المستشرقين أتوا بآراء لا توافق المسلمين (كحال آراء نولدكه المتوفى سنة 1930 في كتابه «تاريخ القرآن» الذي ترجمه الى اللغة العربية عام 2004 الأستاذ جورج تامر). لم نعرف من المستشرقين من تعمدوا عداء العرب والإسلام، والدس والتشويه، بل بالعكس، اتصفت دراساتهم بروح إعجاب وتقدير وحب وإنصاف. نجد هذه الروح عن رايسكه الذي سمى نفسه «شهيد الأدب العربي»، والذي يعتبر واضع أساس متين لدراسة العربية في أوروبا. ونجدها أيضاً عند جورج جاكلوب في كتابه «أثر الشرق في العصر الوسيط»، كما نجدها لدى المعاصرين على غرار زيغريد هونكه في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب».
3 – المنهج العلمي الدقيق الذي يعتبر عند بعضهم مثالاً نادراً يحتذى به، إذ عمل المستشرقون بحب وحماسة بقدر ما أسعفتهم المعرفة والمصادر. ولقد استدرك بعضهم على بعض بإخلاص وصحح بعضهم أخطاء بعض، وكانوا علماء حقاً يقبلون كل نقد وتصحيح.
اتجاهات الاستشراق الألماني
الاتجاه الأول: الموسوعيون التراثيون.
يرى هؤلاء أن التراث العربي والإسلامي بحرٌ يجب خوضه، وقد أنفقوا سنواتِ عمرِهم في هذا التراث، قراءة وتحقيقًا، ونقدًا وتحليلاً، وأهمُّهم - كما أشرنا آنفًا - بروكلمان وفرايتاج، والشاعر والأديب فريدريك روكرت، الذي اعتنَى بشعر المعلقات ومقامات الحريري، وترجمة ديوان الحماسة لأبي تمام مع تعليقات وافية وغير ذلك، ومنهم: سيمون فايل، ومارتن هارتمان، وشبيتا، وأوجست فيشر، وليتمان ونولدكه، وآدم بيتز، وآنا ماري شميل.
الاتجاه الثاني: المستشرقون التراثيون المتخصصون:
وهم كُثُر، ولعل أهمهم أعضاء جمعية المستشرقين الألمان (DMG)، التي تأسَّست في عام 1845م، وقد عقدتْ مؤتمرَها العلمي السابع والعشرين في رحاب جامعة بون، وقد ضم أكثر من خمسمائة مستشرق، واستمر من التاسع والعشرين من شهر سبتمبر حتى الثاني من أكتوبر العام 1998، وقد تنوَّعت الأبحاث بين التراث والمعاصرة، لكنها اتجهت نحو التخصيص. وقد أطّر الاستشراق الألماني عدة اتجاهات، منها:
1ـ الاتجاه التعليمي: الاهتمام باللغة العربية والنحو العربي من أجل التعليم والتدريس.
2ـ الاتجاه التنويري والوعي الرومانسي، فحركة التنويروحركة الوعي الرومانسي أديا إلى توجه متحمس إلى الشرق وبخاصة العرب ودراسة أدبهم ولغتهم.
3ـ الاتجاه التاريخي، ويهدف إلى دراسة الأدب العربي واللغة العربية باعتبارهما وثائق تاريخية قيمة لمعرفة حياة العرب ونمط تفكيرهم.
4ـ الاتجاه الفني، وهو يهتم بدراسة الأدب العربي دراسة فنية.
5ـ الاتجاه الاجتماعي، ويهتم بدراسة الأدب العربي وفكرهم وحضارتهم غير منعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي.
وقد اعتنى المستشرقون الألمان بتراثنا العربي بالكشف والجمع والمحافظة والتقويم والتحقيق والفهرسة والدراسة والترجمة والنشر والتصنيف والتأليف، وأقاموا لنشره ودراسته وتدريسه المعاهد والجامعات والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات.
ومنهم من تجاوز ذلك إلى أن تلقى أدبنا العربي تلقيا منتجا إبداعيا، وتأثر به جماليا وفكريا. وخير مثال على ذلك جوته الذي نظم قصائد حاكى فيها الشعراء العرب، وبكى كما كانوا يبكون على فراق الأحبة. ولقد وصل ببعضهم إلى شراء المخطوطات العربية، واعتبارها كأولادهم، فهذا رايسكه يقول: (ليس عندي أولاد ولكن أولادي يتامى بدون أب وأعني بهم المخطوطات). واهتم رايسكه بالدراسات العربية والأدب العربي غير مكترث بالمصاعب التي واجهته إبان حياته من جراء ذلك إلى أن لُقب (بشهيد الأدب العربي).
أعلام الاستشراق الألماني
1-يوهان جاكوب رايسكه
يعد رايسكه مؤسس الدراسات العربية في ألمانيا حيث بدأ تعليم نفسه العربية ثم درس في جامعة ليبزيج وانتقل إلى جامعة ليدن لدراسة المخطوطات العربية فيها كما اهتم بدراسة اللغة العربية والحضارة الإسلامية وإن كان له فضل في هذا المجال فهو الابتعاد بالدراسات العربية الإسلامية عن الارتباط بالدراسات اللاهوتية التي كانت تميز هذه الدراسات في القرون الوسطى (الأوروبية).
2-يوليوس فيلهاوزن
تخصص في دراسة التاريخ الإسلامي والفرق الإسلامية، من أبرز إنتاجه تحقيق تاريخ الطبري، وألف كتاباً بعنوان ’الإمبراطورية العربية وسقوطها‘ ومن اهتماماته بالفرق الإسلامية تأليف كتابيه ’الأحزاب المعارضة في الإسلام‘ وكتابه ’الخوارج والشيعة‘ وكتب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه ’تنظيم محمد للجماعة في المدينة‘ وكتابه ’محمد والسفارات التي وجهت إليه‘.
3-ثيودور نولدكه
ولد في هامبرج في 2مارس 1836 ودرس فيها اللغة العربية ودرس في جامعة ليبزيج وفينا وليدن وبرلين. عيّن أستاذاً للغات الإسلامية والتاريخ الإسلامي في جامعة توبنجن، وعمل أيضاً في جامعة ستراستبرج. اهتم بالشعر والجاهلي وبقواعد اللغة العربية وأصدر كتاباً بعنوان ’مختارات من الشعر العربي‘ من أهم مؤلفاته كتابه ’تاريخ القرآن‘ نشره عام 1860 وهو رسالته للدكتوراه وفيه تناول ترتيب سور القرآن الكريم وحاول أن يجعل لها ترتيباً ابتدعه. ذكر عبد الرحمن بدوي أن نولدكه يعد شيخ المستشرقين الألمان.
4- كارل بروكلمان
ولد في 17 سبتمبر 1868في مدينة روستوك، بدأ دراسة اللغة العربية وهو في المرحلة الثانوية، ودرس في الجامعة بالإضافة إلى اللغات الشرقية اللغات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية) ودرس على يدي المستشرق نولدكه. اهتم بدراسة التاريخ الإسلامي وله في هذا المجال كتاب مشهور ’تاريخ الشعوب الإسلامية‘ ولكنه مليء بالمغالطات والافتراءات على الإسلام.
ومن أشهر مؤلفاته كتاب ’تاريخ الأدب العربي‘ الذي ترجم في ستة مجلدات وفيه رصد لما كتب في اللغة العربية في العلوم المختلفة من مخطوطات ووصفها ومكان وجودها.
5- جوزف شاخت
ولد في 15مارس 1902، درس اللغات الشرقية في جامعة برسلاو وليبتسك، انتدب للعمل في الجامعة المصرية عام 1934لتدريس مادة فقه اللغة العربية واللغة السريانية. شارك في هيئة تحرير دائرة المعارف الإسلامية في طبعتها الثانية. عرف شاخت باهتمامه بالفقه الإسلامي ولكنه صاحب إنتاج في مجال المخطوطات وفي علم الكلام وفي تاريخ العلوم والفلسفة.
6- آنا ماري شميل
من أشهر المستشرقين الألمان المعاصرين بدأت دراسة اللغة العربية في سن الخامسة عشرة وتتقن العديد من لغات المسلمين وهي التركية والفارسية والأوردو. درّست في العديد من الجامعات في ألمانيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي أنقرة، اهتمت بدراسة الإسلام وحاولت تقديم هذه المعرفة بأسلوب علمي موضوعي لبني قومها حتى نالت أسمى جائزة ينالها كاتب في ألمانيا تسمى جائزة السلام. ولكن بعض الجهات المعادية للإسلام لم يرقها أن تنال هذه الباحثة المدافعة عن الإسلام في وجه الهجمات الغربية عليه حاولوا أن يمنعوا حصولها على الجائزة.
وقد أدرك مكانة هذه المستشرقة العلاّمة والداعية المسلم في أوروبا الدكتور زكي علي منذ أكثر من أربعين سنة حين كتب يقول "وعلى رأس المحررين لمجلة ’فكر وفن‘ الأستاذة الألمعية الدكتورة آن ماري شميل المتخصصة في دراسة محمد إقبال حكيم وشاعر باكستان ..وترجمت إلى الألمانية له ديوان ’جاويد نامة‘ وكتاب ’رسالة المشرق عن الفارسية‘ وهي أستاذة بجامعة بون وغيرها ومن أكابر علماء ألمانيا... وتنصف الإسلام والمسلمين كثيراً جزاها الله خيراً." وقال عنها أيضاً أنها أصدرت العديد من الكتب منها كتاب ’محمد رسول الله‘صلى الله عليه وسلم بسطت فيه مظاهر تعظيم وإجلال المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد امتدحها رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا بأنها ما زالت تواصل كتاباتها الموضوعية وترجماتها عن الإسلام.
الخاتمة
تعد الدراسات الاستشراقية الألمانية من أهم وأثرى الدراسات الاستشراقية الغربية ولكنها الأقل انتشاراً في العالم العربي. ويعود ذلك الى أسباب عدة منها ضعف انتشار اللغة الألمانية في المنطقة العربية، وقلّة الجهود الألمانية للمساعدة في ترجمة الدراسات الى العربية. ومن الأسباب أيضاً ضعف الدور السياسي الألماني في المنطقة في شكل عام.
إن المتتبِّع لحركة الاستشراق الألماني ربما يعودُ بها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، إلا أن البداية الحقيقية المنظَّمة ولدتْ على يد جمعية المستشرقين الألمان (DMC) - وهي في منعطف طرق - فجماعة (DAVO) استقطبت الشبابَ ومَن لم يجد دورًا في (DMG) من كبار المستشرقين؛ لأنها قد احتفظتْ بطابعٍ تقليدي وطقوسٍ جامدة لم يجدْ فيها الشباب دَورهم، ولم يجد فيها ما يصبو إليه؛ فأعضاء الجمعية الكبار وجَّهوا اهتمامهم إلى علوم الشريعة والفلسفة الإسلامية، والفَلك، والنحو، والمعاجم، والتحقيق، والشعر والنثر، وهي أمورٌ لم يعدْ لها من الشباب مَن يتحمَّس لها كثيرًا، لكن هذا الجيل الجديد لم يهتمَّ كثيرًا بعلوم اللغات الشرقية القديمة، وإنما يودُّ أن يقفزَ عليها؛ معتمدًا على مصادر باللغة الألمانية والإنجليزية، وأحيانًا بالفرنسية، مغفِلاً المصدر العربي حتى لو كان مختلفًا معه.
إضافة إلى ذلك نجدُ أن المستشرقين الألمان لديهم مناهجُ يستخدمونها في أبحاثهم الجزئية، لكننا نَفتَقِدُ منهجًا كليًّا للاستشراق نفسه، ولقد خدم بعضُ المستشرقين الكنيسةَ، ولكن هذا الدور يظل محدودًا لانتشار الاتجاه العلماني، وتحول الكنائس في ألمانيا إلى مزارات سياحية، بل لم يجدْ أحد القساوسة بدًّا من تأجيرِ إحدى الكنائس إلى مخزنٍ للبضائع عندما لم يجد مصلِّين، ولكن هذا لا ينفي وجودَ بعض المتعصِّبين ضد الإسلام، وليس بالضرورةِ أن يكونوا مع المسيحية، ولقد وجد بعضُ المحايدين أنفسَهم في حالِ حربٍِ ضد الإعلام الغربي الذي يوجِّه التهم للعرب والمسلمين طيلة الوقت، فساير بعضهم الإعلام، بل تحوَّل واحد منهم مثل "كونسلمان" إلى بوقٍ إعلامي خطير ضدَّ الإسلام، لكن المستشرقين الألمان لا يعدُّونه واحدًا منهم؛ لأنه نشأ إعلاميًّا وعمل في الحقل الإعلامي.
المراجع
1- محمد عوني عبدالرؤوف: جهود المستشرقين في التراث العربي المجلس الأعلى للثقافة،الامارات، 2004.
2- عبدالله بن محمد الحبشي: تصحيح أخطاء بروكلمان، المجمع الثقافي - أبو ظبي، 1998م.
3- عبد الكريم علي باز .افتراءات فيليب حتّي وكار بروكلمان على التاريخ الإسلامي. جدة:تهامة للنشر، 1403-1983.
4- علاء محمد سياج ، مدارس الاستشراق الأوروبية ، بيروت : دار صادر للنشر والتوزيع،2001م .
على الرغم من اتصالِ ألمانيا بالشرق منذ الحروب الصليبية الأولى، وانشقاقها بعد ذلك عن الكنيسة الكاثوليكية إثرَ حركة "مارتن لوثر"؛ فإن الدراسات الاستشراقية الألمانية لم تزدهرْ إلا في القرن الثامن عشر، متأخِّرة في ذلك عن بقية دول أوروبا، ولم يشارك العلماء الألمان في الدراسات العربية اشتراكًا فعليًّا إلا بعد أن توغَّل الأتراك في قلب أوروبا، التي بدأتْ تهتم بدراسة لغات العالَم الإسلامي.
ولعل الصفة البارزة للاستشراق الألماني أنه لم يزدهرْ نتيجةً للاستعمار - كما هي الحال مع فرنسا وإنجلترا وهولندا - أو يرتبط بأهداف دينية تبشيرية كسواه.
والاستشراق الألماني يمتاز بالموضوعية والعمق، وساهم المستشرقون الألمان أكثرَ من سواهم بجمع ونشر وفهرسة المخطوطات العربية، وخصوصًا كتب المراجع والأصول المهمة، ونشر المخطوطات، فإن أهمَّ ما قام به المستشرقون الألمان وضعُ المعاجم العربية.
وقد ازدهرتِ الدراسات الاستشراقية في ألمانيا بفضلِ إنشاء كراسيَّ عديدة لتعلُّم العربية في ألمانيا، وازدياد المكتبات الشرقية التي اكتظت بالآلاف من المخطوطات والمؤلفات العربية والشرقية النادرة، وتأسيس الجمعيات الشرقية؛ كالجمعية الشرقية الألمانية، وإنشاء المجلات المتخصِّصة، منها: مجلة عالم الإسلام، التي أنشأها مارتن هارتمان، ومجلة: إسلاميات، التي أنشأها فيشر، وبرز في هذا المجال "فريدريش روجار" تلميذُ المستشرق النمساوي الكبير "جوزيف بورجشتاله"، وكذلك "هاينريش بارث".
من خلال هذه الدراسة الموجزة سأحاول التعرف على أهم خصائص ومزايا واتجاهات المدرسة الاستشراقية الألمانية ، وكذلك التعرف على أهم رواد الاستشراق الألماني.
الاستشراق الألماني
اهتم الباحثون الألمان بالدراسات العربية الإسلامية منذ عهد مبكر فقد ثبت أن مارتن لوثر كان من الذين تأثروا بالفكر الإسلامي حينما تمرد على الكنيسة الكاثوليكية في روما، ولكن موقف لوثر كان عدائيا جداً من الإسلام وبخاصة الدولة العثمانية. وقد تميز المستشرقون الألمان بالجدية في البحث حتى اصطبغت الدراسات الإسلامية في أوروبا في وقت من الأوقات بالصبغة الألمانية. ويقول في ذلك الدكتور السامرائي "ومع كل هذا فإن المدرسة الألمانية وحدها أظهرت اهتماما علميا جادا بالإسلام في وقت مبكر عن غيرها من المدارس الاستشراقية الأوروبية0 وذكر أمثلة على هذا الاهتمام بالمخطوطات وبالتاريخ الإسلامي حيث ظهر كتاب مغازي الواقدي وبدأ تحقيق كتاب الطبري، وظهرت جهود بروكلمان في كتابه ’تاريخ الأدب العربي‘.
وما زال الاستشراق الألماني مزدهراً في العديد من الجامعات، وقد لحق الاستشراق الألماني غيره في الاهتمام بالقضايا المعاصرة فقد قدم المستشرق راينهارد شولتز محاضرة في شهر سبتمبر 1986 في جامعة برنستون بالولايات المتحدة بعنوان ’الإسلام السياسي في القرن العشرين‘.
مزايا الاستشراق الألماني:
إن المتتبع لحركة الاستشراق الألماني يلاحظ أنه اختص بمزايا عدة منها:
1 – كان الأقل بين الدراسات الاستشراقية للخضوع لغايات سياسية أو استعمارية أو دينية بخلاف الاستشراقات الأوروبية الأخرى) ألمانيا التي لم يتح لها أن تستعمر البلاد العربية أو الإسلامية، ولم تهتم بنشر الدين المسيحي في الشرق). ولم تؤثر هذه الأهداف في شكل عام في دراسات المستشرقين الألمان وبقيت محافظة غالباً على التجرد وعلى الروح العلمية. وإذا ظهرت بعض الدراسات الاستشراقية الألمانية تخالف ذلك، فهذا الأمر لا يمكن تعميمه على الدراسات كلها.
2 – لم تكن دراسات المستشرقين الألمان عن العرب والإسلام والحضارة الإسلامية العربية متصفة على الغالب بروح عدائية. نعم نجد بعض المستشرقين أتوا بآراء لا توافق المسلمين (كحال آراء نولدكه المتوفى سنة 1930 في كتابه «تاريخ القرآن» الذي ترجمه الى اللغة العربية عام 2004 الأستاذ جورج تامر). لم نعرف من المستشرقين من تعمدوا عداء العرب والإسلام، والدس والتشويه، بل بالعكس، اتصفت دراساتهم بروح إعجاب وتقدير وحب وإنصاف. نجد هذه الروح عن رايسكه الذي سمى نفسه «شهيد الأدب العربي»، والذي يعتبر واضع أساس متين لدراسة العربية في أوروبا. ونجدها أيضاً عند جورج جاكلوب في كتابه «أثر الشرق في العصر الوسيط»، كما نجدها لدى المعاصرين على غرار زيغريد هونكه في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب».
3 – المنهج العلمي الدقيق الذي يعتبر عند بعضهم مثالاً نادراً يحتذى به، إذ عمل المستشرقون بحب وحماسة بقدر ما أسعفتهم المعرفة والمصادر. ولقد استدرك بعضهم على بعض بإخلاص وصحح بعضهم أخطاء بعض، وكانوا علماء حقاً يقبلون كل نقد وتصحيح.
اتجاهات الاستشراق الألماني
الاتجاه الأول: الموسوعيون التراثيون.
يرى هؤلاء أن التراث العربي والإسلامي بحرٌ يجب خوضه، وقد أنفقوا سنواتِ عمرِهم في هذا التراث، قراءة وتحقيقًا، ونقدًا وتحليلاً، وأهمُّهم - كما أشرنا آنفًا - بروكلمان وفرايتاج، والشاعر والأديب فريدريك روكرت، الذي اعتنَى بشعر المعلقات ومقامات الحريري، وترجمة ديوان الحماسة لأبي تمام مع تعليقات وافية وغير ذلك، ومنهم: سيمون فايل، ومارتن هارتمان، وشبيتا، وأوجست فيشر، وليتمان ونولدكه، وآدم بيتز، وآنا ماري شميل.
الاتجاه الثاني: المستشرقون التراثيون المتخصصون:
وهم كُثُر، ولعل أهمهم أعضاء جمعية المستشرقين الألمان (DMG)، التي تأسَّست في عام 1845م، وقد عقدتْ مؤتمرَها العلمي السابع والعشرين في رحاب جامعة بون، وقد ضم أكثر من خمسمائة مستشرق، واستمر من التاسع والعشرين من شهر سبتمبر حتى الثاني من أكتوبر العام 1998، وقد تنوَّعت الأبحاث بين التراث والمعاصرة، لكنها اتجهت نحو التخصيص. وقد أطّر الاستشراق الألماني عدة اتجاهات، منها:
1ـ الاتجاه التعليمي: الاهتمام باللغة العربية والنحو العربي من أجل التعليم والتدريس.
2ـ الاتجاه التنويري والوعي الرومانسي، فحركة التنويروحركة الوعي الرومانسي أديا إلى توجه متحمس إلى الشرق وبخاصة العرب ودراسة أدبهم ولغتهم.
3ـ الاتجاه التاريخي، ويهدف إلى دراسة الأدب العربي واللغة العربية باعتبارهما وثائق تاريخية قيمة لمعرفة حياة العرب ونمط تفكيرهم.
4ـ الاتجاه الفني، وهو يهتم بدراسة الأدب العربي دراسة فنية.
5ـ الاتجاه الاجتماعي، ويهتم بدراسة الأدب العربي وفكرهم وحضارتهم غير منعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي.
وقد اعتنى المستشرقون الألمان بتراثنا العربي بالكشف والجمع والمحافظة والتقويم والتحقيق والفهرسة والدراسة والترجمة والنشر والتصنيف والتأليف، وأقاموا لنشره ودراسته وتدريسه المعاهد والجامعات والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات.
ومنهم من تجاوز ذلك إلى أن تلقى أدبنا العربي تلقيا منتجا إبداعيا، وتأثر به جماليا وفكريا. وخير مثال على ذلك جوته الذي نظم قصائد حاكى فيها الشعراء العرب، وبكى كما كانوا يبكون على فراق الأحبة. ولقد وصل ببعضهم إلى شراء المخطوطات العربية، واعتبارها كأولادهم، فهذا رايسكه يقول: (ليس عندي أولاد ولكن أولادي يتامى بدون أب وأعني بهم المخطوطات). واهتم رايسكه بالدراسات العربية والأدب العربي غير مكترث بالمصاعب التي واجهته إبان حياته من جراء ذلك إلى أن لُقب (بشهيد الأدب العربي).
أعلام الاستشراق الألماني
1-يوهان جاكوب رايسكه
يعد رايسكه مؤسس الدراسات العربية في ألمانيا حيث بدأ تعليم نفسه العربية ثم درس في جامعة ليبزيج وانتقل إلى جامعة ليدن لدراسة المخطوطات العربية فيها كما اهتم بدراسة اللغة العربية والحضارة الإسلامية وإن كان له فضل في هذا المجال فهو الابتعاد بالدراسات العربية الإسلامية عن الارتباط بالدراسات اللاهوتية التي كانت تميز هذه الدراسات في القرون الوسطى (الأوروبية).
2-يوليوس فيلهاوزن
تخصص في دراسة التاريخ الإسلامي والفرق الإسلامية، من أبرز إنتاجه تحقيق تاريخ الطبري، وألف كتاباً بعنوان ’الإمبراطورية العربية وسقوطها‘ ومن اهتماماته بالفرق الإسلامية تأليف كتابيه ’الأحزاب المعارضة في الإسلام‘ وكتابه ’الخوارج والشيعة‘ وكتب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه ’تنظيم محمد للجماعة في المدينة‘ وكتابه ’محمد والسفارات التي وجهت إليه‘.
3-ثيودور نولدكه
ولد في هامبرج في 2مارس 1836 ودرس فيها اللغة العربية ودرس في جامعة ليبزيج وفينا وليدن وبرلين. عيّن أستاذاً للغات الإسلامية والتاريخ الإسلامي في جامعة توبنجن، وعمل أيضاً في جامعة ستراستبرج. اهتم بالشعر والجاهلي وبقواعد اللغة العربية وأصدر كتاباً بعنوان ’مختارات من الشعر العربي‘ من أهم مؤلفاته كتابه ’تاريخ القرآن‘ نشره عام 1860 وهو رسالته للدكتوراه وفيه تناول ترتيب سور القرآن الكريم وحاول أن يجعل لها ترتيباً ابتدعه. ذكر عبد الرحمن بدوي أن نولدكه يعد شيخ المستشرقين الألمان.
4- كارل بروكلمان
ولد في 17 سبتمبر 1868في مدينة روستوك، بدأ دراسة اللغة العربية وهو في المرحلة الثانوية، ودرس في الجامعة بالإضافة إلى اللغات الشرقية اللغات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية) ودرس على يدي المستشرق نولدكه. اهتم بدراسة التاريخ الإسلامي وله في هذا المجال كتاب مشهور ’تاريخ الشعوب الإسلامية‘ ولكنه مليء بالمغالطات والافتراءات على الإسلام.
ومن أشهر مؤلفاته كتاب ’تاريخ الأدب العربي‘ الذي ترجم في ستة مجلدات وفيه رصد لما كتب في اللغة العربية في العلوم المختلفة من مخطوطات ووصفها ومكان وجودها.
5- جوزف شاخت
ولد في 15مارس 1902، درس اللغات الشرقية في جامعة برسلاو وليبتسك، انتدب للعمل في الجامعة المصرية عام 1934لتدريس مادة فقه اللغة العربية واللغة السريانية. شارك في هيئة تحرير دائرة المعارف الإسلامية في طبعتها الثانية. عرف شاخت باهتمامه بالفقه الإسلامي ولكنه صاحب إنتاج في مجال المخطوطات وفي علم الكلام وفي تاريخ العلوم والفلسفة.
6- آنا ماري شميل
من أشهر المستشرقين الألمان المعاصرين بدأت دراسة اللغة العربية في سن الخامسة عشرة وتتقن العديد من لغات المسلمين وهي التركية والفارسية والأوردو. درّست في العديد من الجامعات في ألمانيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي أنقرة، اهتمت بدراسة الإسلام وحاولت تقديم هذه المعرفة بأسلوب علمي موضوعي لبني قومها حتى نالت أسمى جائزة ينالها كاتب في ألمانيا تسمى جائزة السلام. ولكن بعض الجهات المعادية للإسلام لم يرقها أن تنال هذه الباحثة المدافعة عن الإسلام في وجه الهجمات الغربية عليه حاولوا أن يمنعوا حصولها على الجائزة.
وقد أدرك مكانة هذه المستشرقة العلاّمة والداعية المسلم في أوروبا الدكتور زكي علي منذ أكثر من أربعين سنة حين كتب يقول "وعلى رأس المحررين لمجلة ’فكر وفن‘ الأستاذة الألمعية الدكتورة آن ماري شميل المتخصصة في دراسة محمد إقبال حكيم وشاعر باكستان ..وترجمت إلى الألمانية له ديوان ’جاويد نامة‘ وكتاب ’رسالة المشرق عن الفارسية‘ وهي أستاذة بجامعة بون وغيرها ومن أكابر علماء ألمانيا... وتنصف الإسلام والمسلمين كثيراً جزاها الله خيراً." وقال عنها أيضاً أنها أصدرت العديد من الكتب منها كتاب ’محمد رسول الله‘صلى الله عليه وسلم بسطت فيه مظاهر تعظيم وإجلال المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد امتدحها رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا بأنها ما زالت تواصل كتاباتها الموضوعية وترجماتها عن الإسلام.
الخاتمة
تعد الدراسات الاستشراقية الألمانية من أهم وأثرى الدراسات الاستشراقية الغربية ولكنها الأقل انتشاراً في العالم العربي. ويعود ذلك الى أسباب عدة منها ضعف انتشار اللغة الألمانية في المنطقة العربية، وقلّة الجهود الألمانية للمساعدة في ترجمة الدراسات الى العربية. ومن الأسباب أيضاً ضعف الدور السياسي الألماني في المنطقة في شكل عام.
إن المتتبِّع لحركة الاستشراق الألماني ربما يعودُ بها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، إلا أن البداية الحقيقية المنظَّمة ولدتْ على يد جمعية المستشرقين الألمان (DMC) - وهي في منعطف طرق - فجماعة (DAVO) استقطبت الشبابَ ومَن لم يجد دورًا في (DMG) من كبار المستشرقين؛ لأنها قد احتفظتْ بطابعٍ تقليدي وطقوسٍ جامدة لم يجدْ فيها الشباب دَورهم، ولم يجد فيها ما يصبو إليه؛ فأعضاء الجمعية الكبار وجَّهوا اهتمامهم إلى علوم الشريعة والفلسفة الإسلامية، والفَلك، والنحو، والمعاجم، والتحقيق، والشعر والنثر، وهي أمورٌ لم يعدْ لها من الشباب مَن يتحمَّس لها كثيرًا، لكن هذا الجيل الجديد لم يهتمَّ كثيرًا بعلوم اللغات الشرقية القديمة، وإنما يودُّ أن يقفزَ عليها؛ معتمدًا على مصادر باللغة الألمانية والإنجليزية، وأحيانًا بالفرنسية، مغفِلاً المصدر العربي حتى لو كان مختلفًا معه.
إضافة إلى ذلك نجدُ أن المستشرقين الألمان لديهم مناهجُ يستخدمونها في أبحاثهم الجزئية، لكننا نَفتَقِدُ منهجًا كليًّا للاستشراق نفسه، ولقد خدم بعضُ المستشرقين الكنيسةَ، ولكن هذا الدور يظل محدودًا لانتشار الاتجاه العلماني، وتحول الكنائس في ألمانيا إلى مزارات سياحية، بل لم يجدْ أحد القساوسة بدًّا من تأجيرِ إحدى الكنائس إلى مخزنٍ للبضائع عندما لم يجد مصلِّين، ولكن هذا لا ينفي وجودَ بعض المتعصِّبين ضد الإسلام، وليس بالضرورةِ أن يكونوا مع المسيحية، ولقد وجد بعضُ المحايدين أنفسَهم في حالِ حربٍِ ضد الإعلام الغربي الذي يوجِّه التهم للعرب والمسلمين طيلة الوقت، فساير بعضهم الإعلام، بل تحوَّل واحد منهم مثل "كونسلمان" إلى بوقٍ إعلامي خطير ضدَّ الإسلام، لكن المستشرقين الألمان لا يعدُّونه واحدًا منهم؛ لأنه نشأ إعلاميًّا وعمل في الحقل الإعلامي.
المراجع
1- محمد عوني عبدالرؤوف: جهود المستشرقين في التراث العربي المجلس الأعلى للثقافة،الامارات، 2004.
2- عبدالله بن محمد الحبشي: تصحيح أخطاء بروكلمان، المجمع الثقافي - أبو ظبي، 1998م.
3- عبد الكريم علي باز .افتراءات فيليب حتّي وكار بروكلمان على التاريخ الإسلامي. جدة:تهامة للنشر، 1403-1983.
4- علاء محمد سياج ، مدارس الاستشراق الأوروبية ، بيروت : دار صادر للنشر والتوزيع،2001م .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى